بينما لا تغيب عنا مشاهد التغطية المكثّفة والمبالغ بها لكل نزاع عشائري في مدن جنوب العراق، حيث تُضخّم الأحداث وتُرسم صورة “العنف والفوضى”، نجد في المقابل صمتًا إعلاميا شبه تام عن الاشتباكات المسلحة التي اندلعت في اليومين الماضيين شمال أربيل بين قوات البيشمركة (فصيل الزيرفاني) ومسلحين من عشيرة الهركي.
في قضاء خبات، الذي لا يبعد كثيرًا عن مركز أربيل، اندلعت اشتباكات عنيفة بالسلاح المتوسط، أُغلقت على إثرها الطرقات الرئيسية وسقط قتلى وجرحى، وسط حالة استنفار غير مسبوقة لقوات الأمن الكردية. ومع ذلك، لم تتصدّر هذه المشاهد العنيفة نشرات الأخبار، ولم تتحول إلى ترند على صفحات الإعلام “الوطني” أو القنوات ذات الصبغة الليبرالية أو الموالية للغرب، ولا حتى الصحف “الحيادية”.
الجنوب… مادة خام للتحريض
حين يتشاجر شابان في مدينة بالجنوب، سرعان ما تتحول القضية إلى “نموذج عن العنف المتجذّر”، ويُختصر المشهد في كلمات مثل “التخلف” و”السلاح المنفلت” و”الفوضى العشائرية”، تسخّر لذلك الكاميرات، والتقارير المطوّلة، والمحللون، ويُفتح الباب لـ “الاستقواء” على هذه المدن إعلاميا، وربما سياسيا.
وفي الوقت الذي يُقدَّم فيه الجنوب كـ”مشكلة أمنية مزمنة”، وكأنّ رائحة البارود لا تفارقه منذ الأزل، يُسحَب المشهد كلياً من الشمال، حيث تتحوّل العدسات إلى عُميان، والميكروفونات إلى خرسان.
لا يُسمح للصحفي بأن يقترب من مسرح الاشتباك، ولا يُفتح المجال لروايات الضحايا، لأن “الصورة ممنوعة”، و”الحقيقة تُراجَع أولاً في المكتب السياسي”.
في الجنوب، يُطارد الإعلام تفاصيل أي مشاجرة، فيصنع منها مادةً لتأنيب مجتمع كامل. أما في كردستان، فحتى وإن اندلعت معركة بالأسلحة الثقيلة، فالمطلوب إعلامياً: الصمت، أو التجميل، أو دفن الخبر تحت مسمّى “خلاف محلي بسيط”.
هل هو نفاق إعلامي؟ أم رقابة؟
ما يحدث ليس مجرد “تفاوت بالتغطية”، بل حالة نفاق إعلامي فاضحة، تسقط عنها أدنى شروط المهنية والنزاهة.
من يغطي أحداث الجنوب ينسج القصص بعناية لشيطنة المجتمع هناك، بينما يتغاضى تماما عن الاشتباكات الدموية في أربيل، التي تمس صورة “الاستقرار” المروّج له دعائيًا في كردستان.
رأي مراقبين
يرى مراقبون أن هذه الازدواجية في التغطية تعكس تحالفًا ضمنيًا بين بعض وسائل الإعلام ومراكز القوى السياسية، وأن الصمت الإعلامي المطبق إزاء ما يحدث في الإقليم يؤكد أن الحياد المهني لم يعد هو البوصلة، بل الولاءات والتوازنات.